الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة **
وقضية الحلول تكاد تكون متطابقة عند الحلاج الصوفي وغلاة الشيعة، فقد كان الحلاج يقول في دعائه: "يا إله الآلهة ويا رب الأرباب، ويا من لا تأخذه سنة ولا نوم رد إلي نفسي لئلا يفتن بي عبادك، يا من هوأنا، وأنا هو لا فرق بين إنيتي وهويتك، إلا الحدث والقدم" (طبقات الصوفية). والحلاج هو الذي وجد عنده ورقة مكتوب فيها "من الرحمن الرحيم إلى فلان ابن فلان".. إذا قارنا ذلك بمذهب أبي الخطاب الرافضي الذي زعم أن الله خلق روح علي وأولاده وتوجه إليهم أمر العالم فخلقوا هم السماوات والأرض. ومن هنا قلنا في الركوع سبحان ربي العظيم، وفي السجود: سبحان ربي الأعلى لأنه لا إله إلا علي وأولاده، وأما الإله الأعظم فهو الذي فوض إليهم العالم (اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص57). لا شك أن مثل هذا الكلام وكلام الحلاج ينبعثان من مصدر واحد ويصدران عن عقيدة واحدة، ويهدفان بالتالي إلى هدف واحد هو تحويل المسلمين عن عقيدتهم الحقة وتضليل سعيهم، وإذهاب دولتهم، وتمزيق وحدتهم وجماعتهم. ومما مضى يتبين لنا أن منهج الصوفية وغلاة الشيعة في القرن الثالث كان منهجًا واحدًا وعقيدة واحدة، فالحلاج كان زميلًا وصاحبًا لكبار رجال التصوف المشهورين في القرن الثالث كالجنيد البغدادي والشبلي. فالجنيد نفسه قد أرسل إليه عندما حكم عليه بالقتل والصلب يقول: "أنك أفشيت أسرار الربوبية فأذاقك طعم الحديد"! وأما الشبلي فيقول: "كنت أنا والحسن بن منصور (الحلاج) شيئًا واحدًا غير أنه تكلم وسكت أنا" فالصوفية كانوا مع غلاة الشيعة شيئًا واحدًا عقيدة وهدفًا.. عقيدة في الحلول، وإنما اختلفوا فيمن حلت فيه روح لله، وهدفًا واحدًا في العمل على إسقاط دولة الإسلام، وتمزيق وحدة المسلمين، وتشتيت الأمة، عقائد ومللًا وغلاة. كانت الطرق الصوفية هي البداية العظيمة التي دخل عن طريقها الفكر الشيعي والمذهب الشيعي إلى العالم الإسلامي السنّي. وستقرأ فيما يلي إن شاء الله تعالى عن طريقتين مشهورتين تأسست الأولى في منتصف القرن السابع الهجري وما زال لها أتباع إلى اليوم وهي الطريقة البكتاشية، وتأسست الثانية في منتصف القرن السادس الهجري وما زال لها أتباع إلى اليوم وهي الطريقة الرفاعية. والطريقة الأولى أعني البكتاشية شيعية قلبًا وقالبًا ومع ذلك نشأت في تركية عاصمة الخلافة الإسلامية واستطاعت التسلل حتى وصلت إلى الجيش الجديد (الانكشارية) بل وإلى بيت السلطان العثماني نفسه وأسهمت إسهامًا فعالًا في تحويل العقيدة السنية. وسيعجب القارئ عندما يطلع على حقيقة هذه الطريقة كيف وجدت مكانًا وردادًا عند أهل السنة والجماعة ولكن عجبه سيزول عندما يعرف كيف التدرج بالمريد إلى ذلك المعتقد الباطني. الطريقة البكتاشية طريقة صوفية شيعية الحقيقة والمنشأ، ولكنها مع ذلك تربت وترعرعت في بلاد أهل السنة في تركية ومصر. * تنسب هذه الطريقة إلى خنكار الحاج محمد بكتاش الخراساني النيسابوري ـالمولود في نيسابور سنة 646هـ ـ 1248م وينسب خنكار هذا نفسه إلى أنه من أولاد إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ. ويقال إنه تلقى العلم عن الشيخ لقمان الخراساني ولا يعرف من لقمان هذا،.. ولكن يقال إنه هو الذي أمره أن يسافر إلى تركية لنشر طريقته الصوفية، فسافر أولًا إلى النجف في العراق، ثم حج البيت وزار وسافر بعد ذلك إلى تركية، وكان هذا في زمان السلطان أورخان العثماني المتوفي سنة 761هـ. * ويذكر أحمد سري البكتاش (دده بابا) شيخ مشايخ الطريقة البكتاشية في مصر الحالي.. في كتابه (الرسالة الأحمدية في تاريخ الطريقة البكتاشية) أن خنكار هذا نزل في قرية (صوليجية فترة أويوك) والتي قسمت بعد ذلك بناحية الحاج بكتاش وما زالت تحمل هذا الاسم إلى اليوم. وأنه استضاف هناك رجل يسمى الشيخ إدريس وزوجته (فاطمة قوتلو ملك) وأنهما أنفقا أموالهما في سبيل نشر دعوة الشيخ خنكار الخراساني ولكن جاء وفد من خراسان لزيارة الشيخ خنكار فلم تجد المرأة ما تضيفهم به إلا أن باعت ثيابها.. واشترت طعامًا لضيوف الشيخ خنكار الخراسانيين. ولما كان من عادة المرأة فاطمة هذه أن ترحب بضيوف الشيخ فإنها لم تخرج إليهم لأنها لا تملك ثيابًا.. فعلم الشيخ خنكار بهذا من الغيب فمد يده فأخرج صرة ملابس لها، ثم مد يده أيضًا تحت البساط الذي يجلس عليه فأخرج كيسين من الذهب وأعطاهما للمرأة التي جاءت وقبلت يدي الشيخ ورحبت بضيوفه، وآمنت بكراماته (الرسالة الأحمدية ص11 ولا يخفى ما في هذه القصة من الخدعة فخنكار هذا لم يخلق ثيابًا. وإنما جاء بذلك الوفد الخراساني الذي تجرد بعد ذلك للدعوة الصوفية في تركية، وصنع الشيخ هذا على أنها كرامة ليسهل ذلك له طريق دعوته في أوساط العامة). وكانت هذه القصة هي البداية لنشر الطريقة البكتاشية وكذلك مجيء هذا الوفد الخراساني الذي راح يروج للشيخ خنكار الذي كان قد مهد الطريق للدعوة الصوفية ولهذه الطريقة الشيعية الباطنية. ثم انتحل الشيخ خنكار كرامة أخرى فادعى (أن فاطمة قوتلو) هذه زوجة الشيخ إدريس قد حملت عندما شربت قطرات من دم الشيخ.. وذلك أن فاطمة هذه لم تحمل من زوجها إدريس التركي مدة عشرين عامًا فلما جاء خنكار الخراساني وكانت تصب الماء له ليتوضأ فوقعت قطرات من دمه في الطشت فشربتها المرأة فحملت وتكرر حملها فولدت حبيبًا، ومحمودًا، وخضرًا. وهؤلاء الأولاد أصروا على أن أباهم هو الشيخ خنكار.. فيما يذكر أحمد سري شيخ مشايخ الطريقة البكتاشية في مصر أن الشيخ خنكار هو أبوهم الروحي فقط وأن أمهم حملت من شربها دم الشيخ وأن الشيخ خنكار لم يتزوج قط طيلة حياته. * أسس الشيخ خنكار أول (تكية) صوفية للطريقة وابتدأ الأتباع والرواد يكثرون، ويسكنون في هذه القرية التي لم تكن إلا سبعة بيوت فقط ثم اكتشفوا جبلًا من جبال الملح. سموه جبل ملح الحاج بكتاش، واشتهر هذا الملح حتى كان يمون ويزود مطابخ السلطان العثماني الذي كان يحصل منه على مليونين (أقة) (الأقة وزن يكبر من الكيلو بقليل) كل عام.. ولما ذاع صيت الشيخ خنكار بكتاش ووصل الأمر إلى السلطان أورخان العثماني المتوفي سنة 761هـ عمد هذا السلطان إلى الشيخ خنكار ليعلم أولاد الأسرى من أهل الذمة، وممن لا أب لهم.. ينشئهم على طريقة الدارسين البكتاشية. وكانت هذه الفرصة الذهبية لانتشار الطريقة وذلك أن هذا الجيش الذي عرف بعد ذلك بالجيش الإنكشاري ـأي الجيش الجديدـ وهو الذي كان عماد الحروب التركية بعد ذلك، ثم كان هو الجيش المتسلط على مرافق الحياة كافة في تركية.. وهكذا استطاعت الطريقة البكتاشية أن تنتشر وأقيمت المقامات على قبور من مات من مشايخها، وبعض هذه القبور غطيت بالذهب الخالص. تنافس السلاطين العثمانيون في بناء التكايا والزوايا والقبور البكتاشية. مر على الطريقة البكتاشية أيام مد وجزر في تركية فبينما ناصرها بعض السلاطين، عارضها آخرون مفضلين طريقة أخرى غيرها فقد أمر السلطان محمود الثاني بإلغاء الإنكشارية بعد أن عاثت في الأرض فسادًا، وأغلق كذلك الزوايا البكتاشية ولكن السلطان عبد المجيد المتوفي سنة 1255هـ عاد وأمر بفتح الزوايا البكتاشية مرة أخرى. * وفي سنة 1925م صدر مرسوم الحكومة التركية بإلغاء جميع الطرق الصوفية ومن ضمنها الطريقة البكتاشية، وكان آخر مشايخها هو صالح نيازي الذي سافر إلى ألبانية وانتخبه الدراويش البكتاشيون ليكون (رده بابا) وهي أعلى منزلة في الطريقة أي شيخ مشايخ الطريقة. وبعد اغتيال صالح نيازي هذا سنة 1942م تولى بعده ابنه عباس دده بابا الذي قتل نفسه سنة 1949م بعد دخول البلاشفة إلى ألبانية. ومنذ ذلك الوقت انتقل المركز الرئيسي للطريقة ليتحول إلى مصر وتكون القاهرة هي المقر الحالي والأخير لهذه الطريقة.. فكيف دخلت هذه الطريقة إلى مصر وكيف استقرت فيها ثم أصبحت هي مكانها الرئيسي بعد تركية وألبانية؟. * استطاع مؤسس الطريقة البكتاشية وهو خنكار محمد بكتاش أن يربي مجموعة من المريدين وكان منهم (أبدال موسى سلطان) الذي كان خليفة بعده، وربى أبدال هذا رجلًا يسمى (قبوغوسز) وهذا القبوغوسز لا يعرف من أبوه ولا أمه، وإنما تسمى بغيبي (الرسالة الأحمدية ص34)، واستطاع هذا الرجل أن يرتحل مع مجموعة من الدراويش من تركية إلى مصر واختار لمن يصحبه في هذه الرحلة دراويش من النوع الذين يطيعون في كل صغيرة وكبيرة حتى إنه كان يقول لهم عن الشجرة الباسقة الطويلة.. هذه شجرة قثاء فيقولون نعم هي قثاء (الرسالة الأحمدية ص38). ولما دخل بهم مصر. أمرهم أن يضع كل منهم على عينه قطعة قطن؛ فلما سألهم الشرط والجنود عن ذلك قالوا: إننا نغمض عين الظاهر، وننظر بعين الباطن.. والناس على دين ملوكهم.. وكان قد علم قبوغوسز أن الأمير يشتكي من وجع عينه!! وأراد الملك أن يختبرهم فعمل لهم وليمة كبرى ووضع لهم ملاعق طويلة جدًا وأحضر وجهاء الناس ليأكلوا، وأمرهم ألا يأكلوا إلا بهذه الملاعق، فعجز الجميع عن الأكل إلا قبوغوسز ودراويشه فإنهم تناولوا الملاعق الطويلة، وكان كل منهم يطعم من أمامه وهكذا. وسر بهم الأمير الذي أعطاهم مكانًا يبنون فيه (تكية) أي زاوية ورباطًا لهم. ومنذ ذلك الوقت وهو سنة 800هـ بدأ انتشار الطريقة البكتاشية في مصر في بداية القرن التاسع الهجري وسمى قبوغوسز نفسه عبدالله المغاوري، وسموا أول تكية لهم تكية القصر العيني.. وظل هذا الحال قائمًا في مصر إلى سنة 1242هـ ـ 1826م حتى جاء السلطان محمود الثاني العثماني فأمر بإلغاء الإنكشارية والطريقة البكتاشية، وأعطيت أملاكهم للطريقة القادرية.. ولكن في عهد السلطان عبد المجيد عادت الطريقة البكتاشية مرة ثانية إلى مصر بعد أن سمح لهم هذا السلطان بالعمل والنشاط وذلك منذ عام 1525م حيث حصل الشيخ علي الساعاتي على لقب (دده بابا) أي شيخ المشايخ، فجمع الدراويش حوله مرة ثانية وبنى تكية جديدة في باب اللوق، وأخذ يعطي العهود ويقيم حلقات الذكر. وفي سنة 1276هـ ـ 1859م صدرت أوامر الحكومة المصرية بتخصيص المغاره التي دفن فيها عبدالله المغاوري (قبوغوسز) للطريقة البكتاشية، فبنوا تكية عظيمة هناك بعد أن طردوا الرعاة والبدو الذين يلجأون إليها بأغنامهم وإبلهم وبنوا قبة عظيمة لمؤسس طريقتهم في مصر. وأصبحت هذه التكية فيما بعد قبلة الشعب المصري حيث يؤمونها لزيارة (ولي الله المغاوري)!! الذي تخصص (بتحبيل النسوان) وشفاء الأمراض وتلبية الحاجات فكانت تقصده كل امرأة لا تلد، وكانت المرأة تدخل في المغارة ضمن كهوف مظلمة طويلة.. وبقيت تكية المغاوري هذه تابعة للمركز الرئيسي للطريقة في تركية، ثم أصبحت تابعة للمركز الرئيسي في ألبانية، ثم بعد أن قتل صالح نيازي بابا نفسه سنة 1949، اجتمع أتباع الطريقة واختاروا أحمد سري شيخ تكية قبوغوسز (عبدالله المغاوري) شيخًا لمشايخ علوم الطريقة وكان ذلك في 30 يناير سنة 1949م (الرسالة الأحمدية ص31) ومنذ ذلك الوقت أصبحت مصر هي المقر الرئيسي لهذه الطريقة، وأصبح أحمد سري (دده بابا) هو شيخ مشايخها. وفي يناير سنة 1957م أمرت الحكومة المصرية بإخلاء تكية المقطم لوقوعها ضمن المناطق العسكرية، وأعطت الحكومة أرباب الطريقة مكانًا آخر في ضاحية المعادي. حيث أسس المقر الجديد على غرار التكايا البكتاشية ثم نشط البكتاشيون، وجددوا التكايا القديمة التي لهم. * هذه لمحة سريعة عن تاريخ هذه الطريقة التي نشأت وترعرعت في أوساط أهل السنة في تركية ومصر، وسيعجب القارئ أشد العجب عندما يعلم أن هذه الطريقة شيعية خالصة في المعتقد والأذكار والمشاعر، وأنها لا تمت إلى أهل السنة بصلة مطلقًا.. سيعجب كيف خفي مثل ذلك على علماء الإسلام ورجال السنة في تركية ومصر، ولكن يزول العجب عندما نعلم أن الظاهر الصوفي كان دائمًا خداعًا يخفي تحته ما يخفي من العقائد الباطنية.
|